• ٢٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٢٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

حماية الطفولة في العراق

د. علاء إبراهيم الحسيني

حماية الطفولة في العراق

 حين ألزم الدستور العراقي لعام 2005 سلطات الدولة في المادة (30) منه بأن توفر للفرد والأُسرة وبخاصّة الأطفال والنِّساء الضمان الصحّي والاجتماعي والمقومات الأساسية للعيش بحياة حرة وكريمة كانت الآمال عريضة في أنّ الواقع سيتغير بشكل ملموس وجذري باتجاه تحسين الواقع المعيشي للفرد والأُسرة وبخاصّة الأطفال.

لذا تعالت الأصوات المؤيدة لإقرار القوانين التي من شأنها أن تحوّل الأحلام الدستورية إلى واقع عملي يتمثّل ببرامج وسياسات حكومية قادرة على مواجهة المشاكل التي تعترض الطفولة البريئة في العراق، وترسم مستقبل لائق بالجيل الجديد بعد أن انطوت سنوات الحكم الشمولي.

 بيد إنّ الواقع يقول غير ذلك فلا البرلمان بادر إلى إقرار قوانين قادرة على تحقيق ما تقدّم ولا الحكومة تبنّت برامج من شأنها أن تعيد الأمل لأطفال العراق، ليعيشوا حياة طبيعية بعيدة عن المشاهد التي ألفوها بشكل يومي والتي تتلخص بالمعاناة في كلّ شيء، فالأطفال معرّضون أكثر من غيرهم للإهمال الحكومي المركب تارة بسبب تردي الواقع الخدمي بشكل عام في العراق، وتارة بتراجع المقومات الأساسية لضمان حياة حرة وكريمة للطفل، كما أنّهم معرّضون للاستغلال بكلّ صُوَر هذه الظاهرة البشعة في وقت السلم والحرب على حدٍّ سواء فالجماعات المسلحة التي تعاقبت في العراق كانت ولا تزال تنعش أعمالها الإجرامية بتجنيد الأطفال أو يكون جلّ ضحاياها من الأطفال عند ممارسة أعمال القتل والتهجير القسري وغير ذلك.

 وإن تجرّدنا من الواقع العملي وعدنا إلى الواقع القانوني نجد أنّ المشرّع في العراق ألزم الجهات الحكومية بالنهوض بالطفولة في أكثر من مورد نذكر منها على سبيل المثال:

1- التزام العراق بموجب العهد الدولي الخاصّ بالحقوق المدنية والسياسية للعام 1966 والذي أقرته الجمعية العامّة للأُمم المتحدة كاتفاقية دولية وصادق عليه العراق بالقانون رقم (193) لسنة 1970، إذ تنص مادته (24) على أن (يكون لكلّ ولد، دون أي تمييز بسبب العرق أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدِّين أو الأصل القومي أو الاجتماعي أو الثروة أو النسب، حقّ على أُسرته وعلى المجتمع وعلى الدولة في اتّخاذ تدابير الحماية اللازمة كونه قاصر).

2- ما ورد في العهد الدولي الخاصّ بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية لعام 1966 الذي صادق عليه العراق بالقانون رقم (193) لسنة 1970 المادة (10) والتي تنص في بندها الثالث على (3- وجوب اتّخاذ تدابير حماية ومساعدة خاصّة لصالح جميع الأطفال والمراهقين، دون أي تمييز بسبب النسب أو غيره من الظروف. ومن الواجب حماية الأطفال والمراهقين من الاستغلال الاقتصادي والاجتماعي. كما يجب جعل القانون يعاقب على استخدامهم في أي عمل من شأنه إفساد أخلاقهم أو الأضرار بصحّتهم أو تهديد حياتهم بالخطر أو إلحاق الأذى بنموهم الطبيعي. وعلى الدول أيضاً أن تفرض حدود دُنيا للسن يحظر القانون استخدام الصغار الذين لم يبلغوها في عمل مأجور ويعاقب عليه).

3- ورد في اتفاقية حقوق الطفل لعام 1989 التي أقرتها الجمعية العامة للأُمم المتحدة أيضاً، وصادق عليها العراق بالقانون رقم (3) لسنة 1994 بالمادة (19) من الاتفاقية أنّه (تتّخذ الدول الأطراف جميع التدابير التشريعية والإدارية والاجتماعية والتعليمية الملائمة لحماية الطفل من كافة أشكال العنف أو الضرر أو الإساءة البدنية أو العقلية والإهمال أو المعاملة المنطوية على إهمال، وإساءة المعاملة أو الاستغلال، بما في ذلك الإساءة الجنسية، وهو في رعاية الوالد (الوالدين) أو الوصي القانوني (الأوصياء القانونيين) عليه، أو أي شخص آخر يتعهد الطفل برعايته).

4- ما ورد في دستور جمهورية العراق لعام 2005 في المادة (29) بأنّه:

أ- الأُسرة أساس المجتمع وتحافظ الدولة على كيانها وقيمها الدينية والأخلاقية والوطنية.

ب- تكفل الدولة حماية الأُمومة والطفولة والشيخوخة، وترعى النشئ والشباب. ثالثاً: يحظر الاستغلال الاقتصادي للأطفال بصوره كافة وتتّخذ الدولة الإجراء الكفيل بحمايتهم.

رابعاً: تمنع كلّ أشكال العنف والتعسف في الأُسرة والمدرسة والمجتمع، وما ورد في المادة (30) البند (أوّلاً: تكفل الدولة للفرد والأُسرة وبخاصّة الطفل والمرأة الضمان الصحّي والمقومات الأساسية للعيش في حياة حرة كريمة، وتؤمن لهم الدخل المناسب والسكن الملائم).

5- ما ورد في قانون العمل العراقي رقم (37) لسنة 2015 في المادة (7) التي حدّدت سن العمل كحدٍّ أدنى هو (15) عاماً وتنصّ المادة (95) من القانون ذاته على أنّه (أوّلاً: يحظر تشغيل الأحداث، أو دخولهم مواقع العمل، في الأعمال التي قد تضر طبيعتها أو ظروف العمل بها بصحّتهم أو سلامتهم أو أخلاقهم) وقد بيّن البند (ثانياً) من ذات المادة أمثلة على الأعمال الممنوعة على الأطفال وهي:

أ- العمل تحت الأرض وتحت سطح الماء وفي المرتفعات الخطرة والأماكن المحصورة.

ب- العمل بآليات ومعدات وأدوات خطرة أو التي تتطلّب تدخلاً يدوياً أو نقلاً لأحمال ثقيلة.

ج- العمل في بيئة غير صحّية تعرّض الأحداث للمخاطر أو تعرّضهم لدرجات حرارة غير اعتيادية أو الضجيج أو الاهتزاز الذي يضر بصحّته.

د- العمل في ظروف صعبة لساعات طويلة أو في بعض ظروف العمل الليلي.

ثالثاً: يحضر تشغيل الأحداث في الأعمال الليلية أو المختلطة.

وما تقدّم من التزامات تقع على العراق يناقضه الواقع فلو تحرينا السياسات الحكومية إزاء الأطفال لتبيّن لنا مستوى الإهمال والذي وصل إلى مستويات مخيفة ونتج عنه الآتي:

1- الفقر المدقع لنسبة كبيرة من الأُسر العراقية ما انعكس على الأطفال مباشرة فقد أُصيب العديد منهم بسوء التغذية أو بالأمراض المزمنة أو اضطروا إلى العمل في سن مبكرة، كما إنّ حالة الحرمان التي تقاسيها الأُسر انعكست بآثارها على الطفل.

2- ضعف الوعي لاسيّما في الجوانب الثقافية والحضرية ولهذا نجد الأطفال شديدي التأثر بالثقافات المستوردة وقليلي المعرفة بالثقافة العراقية والإسلامية والعربية أو الكردية وغيرها من الثقافات المحلية الأصيلة القائمة على أُصول عريقة توارثها الآباء والأبناء جيل بعد جيل إلّا أنّها اليوم مهددة بالأفول.

3- الجهل وانحسار المستوى التعليمي للأطفال في العراق بسبب قلة المدارس وتقادم الكثير منها ومبادرة وزارة التربية إلى هدم عدد غير معلوم ما تسبب بتكدس الأطفال في عدد قليل من المدارس وانتشار ظاهرة التعليم الأهلي والخاصّ المكلف بالنسبة للأُسر المتعففة، ما أنتج هجرة الأطفال من المدارس إلى سوق العمل أو غيره.

4- فقدان الأمن نتيجة أنشطة الجماعات المسلحة الإرهابية التي طالت عملياتها الإجرامية الأطفال بشكل مباشر وتسبّبت بتعطل مفاصل الحياة في الكثير من الأحيان وفي محافظات ومدن كاملة في وقت من الأوقات.

5- الواقع الاجتماعي غير المستقر فقد شاعت ظاهرة التفكك الأُسري وتصاعدت مستويات الطلاق في منحنى عامودي خطير جدّاً، وغلبت المفاهيم القبلية على أُسس المدنية.

 ونستعرض فيما يلي بعض صُوَر المشاكل التي تعترض مشروع الطفولة الصالحة في العراق والتي تصاعدت مستوياتها في الآونة الأخيرة دون أن تكون هنالك وقفة حقيقة من الجهات الحكومية المختصة وأخطرها الآتي:

‌أ- تعرّض الأطفال للاعتداءات الجنسية وإجبارهم أو أغواهم لارتكاب أعمال غير أخلاقية كالبغاء أو التسلّط الجنسي بمقابل أو بدونه.

‌ب- الرق والاستعباد والاستغلال غير المشروع: وهو ما لاحظناه بعد هجوم الجماعات المسلحة الإرهابية على شمال وغرب العراق إذ قامت الجماعات المنحرفة بأسر العديد من الفتيات القاصرات وبيعهن كجواري للعمل والمتعة الجنسية للمجرمين.

‌ج- شيوع ظاهرة التنمر على الأطفال سواء في المدرسة أو في العمل أو الأماكن العامّة بسبب ميول بعض الأطفال إلى العنف وقد استجد في وقتنا الحاضر التنمر الإلكتروني والثقافي والجسدي بالاعتداء وما سواه.

‌د- شيوع ظاهرة الاستغلال الاقتصادي للأطفال إذ يضطر العديد من الأطفال إلى العمل في سن مبكرة في أماكن يرتادها البالغين ويتعاطون بعض المواد الخطرة على الطفل كالتدخين والخمور وما ظاهرة عمل الفتيات في المقاهي إلّا مثال على ما تقدّم.

‌هـ- شيوع ظاهرة التسول باستخدام الأطفال أو قيام الأطفال أنفُسهم بدفع وتحريض من البالغين بالتسول إذ تنشط بعض العصابات المنظمة التي تدير نشاطات التسول باستغلال الأطفال في التسول ما يعرّضهم لخطر الموت أو المرض نتيجة التقلّبات التي تشهدها الحالة الجوية، أو التعرّض لهم من قبل بعض البالغين، والأشد سوءً هو استغلال الأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصّة كالمقعدين وذوي العاهات وغيرهم في هذه الأعمال.

‌و- استغلال الأحداث للترويج لجرائم أُخرى فقد لوحظ ومن خلال تقارير الأجهزة الأمنية أنّ العصابات الإجرامية كثيراً ما تستغل الأطفال لارتكاب جرائم مثل الترويج المخدرات والمؤثرات العقلية.

‌ز- الإساءة للأطفال في الأوساط التي يرتادونها كالأسواق ووسائط النقل العامّ وبيئة العمل، فعندما يتواجد الطفل في أي مكان ممّا تقدّم يتعرّض لسماع كلمات ويشاهد بعض الأفعال التي لا تتلاءم مع سنه وملكاته ما يؤثّر في المستقبل على نمو جسم الطفل أو يلحق بها الضرر الفادح.

‌ح- استغلال الأطفال في الأعمال الإجرامية والإرهابية: وهذه الصورة الأشد خطراً فقد تبنّى تنظيم داعش الإجرامي نوع من الدعاية التي تظهر الأطفال وهم يرتكبون جرائم بدفع مباشر من إرهابيين بالغين أو تشكيل نوع من الفصائل الخاصّة بالأطفال أو تدريبهم على ارتكاب جرائم وغير ذلك كثير.

 وبات من الواضح إنّ الحماية المطلوبة للأطفال لا تكون ذات بُعد قانوني فقط بل تأخذ بعداً اقتصادياً وثقافياً واجتماعياً للطفولة فلابدّ من التحوّل نحو العمل الجاد على جميع الأصعدة لإنقاذ الطفولة في العراق من خلال:

1- تنمية الشعور بالمسؤولية تجاه الأطفال: إذ يقع واجباً على الدولة العراقية بكلّ مؤسّساتها والمجتمع العراقي بكلّ مكوناته وأفراده التصدّي لكلّ مظاهر الإساءة للأطفال.

2- سن تشريعات تحمي الطفل في العراق وبالخصوص قانون الطفل: على أن يتضمن هذا القانون الآليات اللازمة لتفعيل الحقوق الدستورية والطبيعية للطفل في العراق وعلى رأسها توفير الحماية من جميع المخاطر التي تتهدد حياته وتوفير الضمان الاجتماعي والصحّي بما يقي الأحداث من جميع المخاطر.

3- العمل الجاد على تفعيل القوانين النافذة التي تضمّنت امتيازات للطفل: ومنها (قانون رعاية ذوي الإعاقة والاحتياجات الخاصّة رقم 38 لسنة 2013) والذي تنص المادة (15) منه على إلزام الوزارات والجهات المعنية كافة بتوفير بعض الاحتياجات لذوي الإعاقة ومنهم الأطفال مثل «تقديم الخدمات الوقائية والعلاجية بما فيها الإرشاد الوراثي الوقائي وإجراء الفحوصات والتحليلات المختبرية المختلفة للكشف المبكر عن الأمراض واتّخاذ التحصينات اللازمة، تسجيل الأطفال الذين يولدون وهم أكثر عرضة للإصابة بالإعاقة ومتابعة حالاتهم، تأمين التعليم الابتدائي والثانوي بأنواعه لذوي الإعاقة والاحتياجات الخاصّة حسب قدراتهم وبرامج التربية الخاصّة والدمج التربوي الشامل والتعليم الموازي، تقديم معونات شهرية لذوي الإعاقة والاحتياجات الخاصّة من غير القادرين على العمل وفقاً للقانون، دمج الطفل ذو الإعاقة ورعايته التأهيلية داخل أُسرته، وفي حالة تعذر ذلك تقدّم له الرعاية البديلة».

4- توفير الضمان الصحّي: فعلى الحكومة العراقية أن تتبنّى خطّة حقيقية لتوفير السكن الملائم لجميع الأُسر العراقية وعلى رأسها الأُسرة التي تحتضن مجموعة من الأطفال عبر تخصيص قطع أراضي مجانية والزام الوزارات والجهات ذات العلاقة بتوفير التسهيلات اللازمة للبناء أو إنشاء المجمعات السكنية وتوزيعها على العراقيين.

5- توفير الضمان الاجتماعي: فعلى الحكومة العراقية وامتثالاً للمواد 29-30 من الدستور أن توسع من مظلة الحماية الاجتماعية لتشمل الأطفال وبخاصّة ذوي الاحتياجات الخاصّة أو ممّن فقدوا آباءهم أو ممّن تعرّضوا للتعنيف بشكل مباشر بفعل الجماعات الإرهابية.

6- وضع إستراتيجية وطنية بعنوان الطفل أوّلاً: تلتزم بمقتضاها الوزارات والجهات المختصة بالعمل كلاً بحدود اختصاصها على تخليص الأطفال من التبعات السلبية التي حاقت بهم فعلى سبيل المثال:

أ‌- تلتزم وزارة التربية بوضع خطّة لشمول جميع الأطفال المتسربين من التعليم الإلزامي والأساسي وزجهم في مدارس تتكفل بمحو الأُمية لديهم.

ب‌- تتكفل وزارة العمل والشؤون الاجتماعية بالتوسع بدور الإيواء والنهوض بواقعها كماً وكيفاً لتوفر الحياة الكريمة للأطفال المنتسبين إليها.

ت‌- تتكفل وزارة الداخلية والأمن الوطني بملاحقة العصابات ممّن تستغل الأطفال أو تعتدي عليهم في الحياة الواقعية أو الافتراضية (الإلكترونية).

ث‌- تتكفل وزارة الخارجية بتكريس جهودها الدبلوماسية لمنع كلّ صُوَر الجريمة والعدوان على أطفال العراق عندما تكون صادرة من الخارج عبر التحريض أو الإيواء للمجرمين والمؤسّسات الإجرامية.

7- على المجتمع العراقي بكلّ مكوناته أن يسهم في درء خطر الاعتداء على الأطفال، وهذا يتحقّق بالتعاون وتضافر الجهود ورفع المستوى الثقافي للأُسر والتعاون لردم هوة الفقر التي تتزايد بشكل مخيف في العراق.

8- على منظمات المجتمع المدني أن تكرّس جهودها الحالية والمستقبلية للتصدي لكلّ الظواهر السلبية التي تمسّ الطفل، سواء على صعيد التعريف بمخاطرها وأسبابها أو الإسهام في مراقبة تجلياتها والتحرّك الحثيث والسريع لمنع وقوعها، أو الحدّ من آثارها.

ارسال التعليق

Top